عبد الناصر ونحن-مادة لإعادة التفكير والحوار/ د.رباح حلبي

مر نصف قرن على رحيل القائد جمال عبد الناصر. أنا كما غالبية العرب، ما زلنا نذكره ونستذكره كرمز للقيادة العربية القومية الابية. نضعه في رأس، بل فوق، كل القيادات القومية، ونجعله قدوة يقتدى بها. السؤال: لماذا ما زلنا نتوق له بعد كل هذه السنوات، وما بشخصه او بنا يجعلنا نحبه ونعجب به الى هذا الحد؟!.
على الصعيد الداخلي كان عبد الناصر قائدًا استثنائيًا، أحدث تغييرات سياسية واجتماعية كبيرة غيرت وجه التاريخ في مصر، ورسّخها في قيادة العالم العربي. أمّم قناة السويس، بنى السد العالي, غيّر الدستور، أقر قانون الإصلاح الزراعي، وحاول تغيير الأوضاع الاجتماعية-الاقتصادية بدعم القوى العاملة والفقراء.
اما على الصعيد الخارجي-العربي، لم تكن لديه إنجازات. حاول ترسيخ فكرة القومية العربية وكان نجاحه خجولًا، حاول تطبيق هذا الفكر من خلال الوحدة مع سوريا وفشل بذلك. اما أحد اخفاقاته الكبيرة فكانت ضمن الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية.
طرح في حينه-في الستينات-الرئيس التونسي أبو رقيبه مشروع حل للقضية الفلسطينية، بالاعتراف بشكل ارتدادي في قرار التقسيم وإقامة دوله فلسطينية على 45% من ارض فلسطين. لم يُقبل طرح أبو رقيبه، بل اعتبره البعض بالعميل والخائن، واليوم أصبح الحل الذي طرحة بمثابة حلم، بحيث يتمنى الفلسطينيون إقامة دويلة على 22% من الأرض. الاستراتيجية التي طرحها مقابل ذلك عبد الناصر: ما أُخذ بالقوة لا يُسترد الا بالقوة. فخاض حرب 1967 ولتندحر جيوشه وجيوش سوريا والأردن، وتحصل النكسة النكراء. وهو بنفسه اعترف بهذا الفشل الذريع عندما قدم استقالته، وتلك شهادة للرجل واستقامته وشهامته, عملة نادرة بمجتمعنا العربي.
لاحقاً اتبع مقولته السادات في حرب 1973 حيث أحدث الجيش المصري تغييراً جذرياً في موازين القوى، وتصدى للجيش الإسرائيلي الذي لا يُهزم، وغيّر مفاهيم اليهود لأنفسهم وللعرب. وفي اعقاب ذلك استرجع جميع الأراضي المصرية المحتلة، مع إمكانية حكم ذاتي للفلسطينيين، وهو أفضل بكثير مما وصلوا اليه في اتفاقات أوسلو. رغم ذلك اعتُبر السادات وما زال كعميل ومتواطيء!.
السؤال: لماذا نحن نؤوِّل التاريخ ونلمِّع صورة عبد الناصر في حين نلطّخ صور الاخرين؟. لماذا نحن نتغاضى عن إخفاقات عبد الناصر ونصر على تصويره كقائد لا "تحوفه حائفة"، بل نرفعه الى صفة المصطفين؟!.
باعتقادي ذلك يعود بالأساس الى هويتنا، الى نفسياتنا والى تاريخنا. نحن نحاول ان "نتترتح" بشخصية كعبد الناصر من اجل تلميع صورنا امام أنفسنا، من اجل التغاضي عن اخفاقاتنا وتعويض ما نفتقده. نحاول ان نعوّض عن الذل والاذلال الذي نعيشه كشعب على مر السنين الماضية امام تفوق الغرب.
تميز عبد الناصر بشيء يفتقده معظمنا: الشجاعة والثقه والعنفوان والنبرة الواثقة امام الغرب والمستعمرين، تجلى ذلك مثلاً في تأميم قناة السويس رغماً عن انف الغرب. تمتع عبد الناصر بكرامة وعنفوان امام الغرب المتغطرس الذي داسنا واهاننا على مر السنين، فنحاول من خلاله استعادة كرامتنا، متغاضين عن التفاصيل الدقيقة وعن الحقائق التاريخية.
وتبقى تلك تحليلاتي الشخصية, ووجهة نظر قابلة للنقاش والحوار.